14 نوفمبر 2024
مستقبل النظام السياسي الفلسطيني وأسئلة ما بعد عباس
ثمّة أسئلة كبيرة ومشروعة، وترقب وتحليلات في الأوساط الفلسطينية والعربية والصهيونية والدولية، تدور في معظمها حول مآلات السلطة الوطنية الفلسطينية، بل والنظام السياسي الفلسطيني برمته، إذا ما غاب الرئيس محمود عباس عن واجهة الأحداث في فلسطين.
لم يعد غياب الرئيس مسألة افتراضية متخيلة في ذهن خصومه، بل هي إضافة إلى دخوله الثمانينات من عمره، أمر طرحه هو بنفسه في عدة مناسبات، حين أعلن عدم نيته الترشح في أية انتخابات مقبلة، سواء على مستوى السلطة، أو في مؤتمر حركة فتح المزمع عقده في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فضلا عن تهديداته المستمرة بالاستقالة، تعبيراً عن يأسه من توقف المفاوضات التي لا بديل عنها من وجهة نظره، وانسداد أفق الحل السياسي، على الرغم من انتظاره الجار الإسرائيلي، ليكون جاهزا للسلام كل هذه السنوات.
إجراءات عزل ياسر عبدربه عن أمانة سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وتعيين صائب عريقات في هذا الموقع، والحجز على أموال مؤسسة سلام فياض، واستمرار الصراع مع محمد دحلان، فسرها المراقبون بأنها محاولة من الرئيس لترتيب شؤون البيت قبل مغادرته.
غياب الرئيس المفترض، وبغض النظر عن توقيته وظروفه والملابسات التي ستحيط به، يأتي في ظل التغول الصهيوني على ما تبقى من مظاهر سيادية للسلطة الفلسطينية، وغياب آليات واضحة لانتقال السلطة، وصعوبة إجراء انتخابات جديدة في ظل الانقسام وسلطتي الأمر الواقع في شطري الوطن، وتراجع التأثير العربي في الوضع الفلسطيني الذي بات يشهد تدخلا إسرائيليا متزايداً، يكاد يتحكم في كل مفاصل الحياة اليومية.
ثلاثة مواقع يشغلها الرئيس، وهي متداخلة ومتشابكة، فهو رئيس للجنة التفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ورئيس حركة فتح وقائدها العام. وكل من المنظمة والسلطة تآكلت شرعيتهما، واختلّت النظم والقوانين الحاكمة فيهما، في حين تعاني "فتح" من وضع متردٍّ، تزيده سوءاً صراعات السلطة، وغياب الأفق السياسي وسط المجهول الذي ينتظرها في مؤتمرها المقبل.
في اتفاق أوسلو الذي يتحكم بالوضع القانوني للسلطة الفلسطينية هنالك اعترافان: الأول تعترف به منظمة التحرير بإسرائيل. والثاني تعترف به إسرائيل بأن منظمة التحرير هي الجهة التي ستفاوضها عن الفلسطينيين في عملية السلام. أي أن إسرائيل لا تعترف بالحقوق الفلسطينية، وإنما بالجهة التي ستفاوضها على ما تعتبرها أمورا متنازعا عليها، بهدف منح حكم ذاتي محدود للفلسطينيين، وفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، للتوصل إلى اتفاق نهائي، انتهت قبل نحو 20 عاماً، وما زال الاحتلال جاثما فوق الأرض الفلسطينية.
ما يعنينا هنا أن منظمة التحرير، نظرياً، جهة أعلى من السلطة الفلسطينية، وهي المنوط بها عملية المفاوضات والوصول إلى تسوية نهائية. ولذا، كان من المهم أن يكون رأس السلطة هو رأس المنظمة. نظرياً، ينتخب المجلس الوطني الفلسطيني رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأعضاءها، وهو ما تم لدى انتخاب أحمد الشقيري ويحيى حموده وياسر عرفات. وعملياً، يجب ألّا نغفل عن التأثير العربي في اختيار الرئيس في المراحل السابقة، والذي أدت مصر دوراً محوريا فيه. تضاءل هذا التأثير كثيراً الآن، وربما أصبحت المؤثرات الأوروبية والأميركية والإسرائيلية أقوى منه وأبلغ. بل يمكن القول إن منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلت، على الدوام، وطنا معنويا للفلسطينيين أينما كانوا، في الوطن أو الشتات، قد أصابتها عوامل الزمن والتردي، وانهار مشروعها السياسي الأساسي التي عبر عنه الميثاق الوطني الفلسطيني. لذا، نجد على الدوام أن الكل الفلسطيني، ومن دون استثناء، ومن موقع التمسك بمنظمة التحرير وطنا للفلسطينيين، يدعون إلى إعادة (إحيائها)، ولعله أبلغ تعبير عن الحالة التي وصلت إليها، من حيث هو إحياء من موتها السريري، ومعها النظام السياسي الفلسطيني برمته. حسبنا أن المجلس الوطني الفلسطيني، ومنذ أول دورة انعقاد له سنة 1964 عقد 20 دورة في 27 سنة، وهذا دليل على حيوية النظام السياسي آنذاك. أما في ظل "أوسلو"، وعلى مدى ربع قرن، فقد عقد دورة واحدة سنة 1996 في غزة، خصصت لتعديل الميثاق الوطني، وشابتها مثالب كثيرة في تغيير عضوية الأعضاء الذين لم يحضروا احتجاجاً، وتم استبدالهم بغيرهم، وكاتب هذه السطور ممن عايشوا هذا الأمر. كما تم لاحقاً (2009) عقد جلسة طارئة لاستبدال أعضاء اللجنة التنفيذية الذين توفاهم الله. وإذا كانت آخر جلسة للمجلس الوطني قد عقدت قبل كل هذا الزمن، فمن هم أعضاؤه الأحياء اليوم، وكم عددهم، أما اللجنة التنفيذية، فقد مضى لبعض أعضائها في عضويتها أكثر من أربعين عاماً.
تآكل منظمة التحرير على هذه الصورة، وتراجع دورها لحساب السلطة الوطنية، وفشل كل الاقتراحات لإنعاشها، بما فيها الاتفاق على قيادة وطنية موحدة، أو الدعوة إلى عقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني، عبر إعادة تشكيله على أسس أكثر ديمقراطية، تسمح بانتخاب أعضائه، حيثما يمكن ذلك في الوطن والشتات، أصاب ذلك كله أسس النظام السياسي الفلسطيني الراهن بالتصدع، وجعل من الضرورة المبادرة إلى حلول أكثر جذرية، عبر مبادرات شعبية، من أجل أن تبقى منظمة التحرير فعلا ممثلا شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.
تعيين صائب عريقات أمينا لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بدلا عن ياسر عبد ربه، قد يفتح له مجالاً لأن يخلف الرئيس محمود عباس في رئاسته منظمة التحرير، تماما كما خلف عباس، حين كان أمينا للسر، الرئيس ياسر عرفات بعد استشهاده، في رئاسة اللجنة التنفيذية. لكن قد يتم فصل هذا الموقع عن منصب رئيس السلطة الوطنية في المرحلة المقبلة، خصوصا بعد تقليص دور المنظمة في النظام السياسي الفلسطيني، والتطورات التي طرأت على دور السلطة الوطنية في ظل الاحتلال، ما يدخل الحالة الفلسطينية في مرحلة جديدة أشد قتامة، يخشى بها أن يتحول دور المنظمة إلى تبرير لأفعال السلطة، مع التضاؤل التدريجي لفاعليتها، وصولا إلى إنهاء دور ما كان يعرف في التاريخ الفلسطيني باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
انتهت ولاية الرئيس محمود عباس منذ شهر سبتمبر/أيلول 2009، وهذا هو حال المجلس التشريعي الفلسطيني. والسلطة الفلسطينية سلطتان، بعد أن فشلت كل جهود المصالحة، ولا يبدو أن ثمة أفقا جديا أمامها في المدى المنظور. الفراغ الرئاسي في حال رحيل الرئيس عباس يفترض أن يملأه رئيس المجلس التشريعي، المنتهية ولايته أيضا، ثلاثة أشهر، تجري خلالها انتخابات جديدة. لكن، ثمة قرار لافت لمحكمة العدل العليا الفلسطينية، أخيراً، والتي قضت بعدم جواز محاكمة النائب في المجلس التشريعي، محمد دحلان، عن قضايا فساد وجهت له لتمتعه بالحصانة البرلمانية. وإذا كان القرار يخص دحلان، إلا أنه يعني اعتراف المحكمة، ضمناً، باستمرار شرعية المجلس التشريعي ونوابه الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم عن عضويتهم في هذا المجلس المنتهية ولايته. وهذا قد يعطي الحق لرئيس المجلس التشريعي، وهو من حركة حماس، بالمطالبة بموقع الرئاسة. لكن، الموضوع هنا وفي ظل الانقسام يتعدى إطار الجدل القانوني والفقه الدستوري الذي لن يلتفت إليه أحد، في غياب الشرعيات الضرورية، وعلى الأرجح، سيتم اختراع حلول، أبسطها استدعاء المجلس المركزي للقيام باختيار الرئيس الجديد العتيد، باعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة الولاية على السلطة الوطنية، هذا إذا لم يعيّن الرئيس محمود عباس نائباً له قبل رحيله.
رحيل الرئيس عباس يعني أن مرحلة جديدة توشك أن تبدأ، وإن تمت أولى خطواتها قبل سنوات، عندما قضت إسرائيل على ما تبقى من اتفاق أوسلو، في اجتياحها المناطق الفلسطينية، وعندما وضع الجنرال الأميركي دايتون خطة التنسيق الأمني، وأعاد بناء أجهزة الأمن الفلسطينية بما يخدم هذه الخطة. عملياً، لم تعد هنالك مناطق تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وازدادت بشكل كبير هيمنة الأجهزة الأمنية على الحياة العامة، إلى الدرجة التي اعتبر فيها رئيس الحكومة، رامي الحمد الله، أنها ليست من اختصاص حكومته. ولعل من أصدق ما قاله ياسر عبد ربه، في مؤتمره الصحفي، بعد قرار عزله ونعيه اتفاق أوسلو، تأكيده التقاسم الوظيفي بين السلطة الوطنية والإدارة الإسرائيلية.
الاحتلال الذي فكك أوسلو ورفض عملية السلام، على الرغم من كل التنازلات التي قدمت له، وشيّد جدار الضم والفصل العنصري، والتهم الأرض الفلسطينية واستباحها، وأنشأ المستوطنات التي تتضاعف أعدادها كل سنة، يسعى إلى مرحلة جديدة، يعمل فيها على تفريغ الفصائل الفلسطينية من إرثها النضالي، وإلهائها بالصراعات الداخلية والجهوية، كما يهدف إلى إنهاء ما تبقى من مظاهر للسلطة الفلسطينية تدريجياً، وجعلها منظومة إدارة ذاتية، تتقاسم الوظائف مع الحاكم العسكري الصهيوني، وتتحمل عنه جزءا من أعباء الاحتلال، وتسهر على أمنه وأمن مستوطنيه، وتسمح له بالسيطرة على البلاد والعباد، والتحكم بكل الموارد والمرافق والمفاصل، وتفصل الأرض المحتلة عن الشتات، وأهل فلسطين المحتلة عن أقرانهم في أنحاء المعمورة، وصياغة واقع فلسطيني جديد معزول عن تاريخه ونضاله.
في ظل هذا السياق، لن تعود مرحلة مثل مرحلة الرئيس محمود عباس، على الرغم من كل التنازلات التي قدمها، مقبولة من المحتل. ثمة انحدارإلى هاوية أخرى، نمط جديد تجري صياغته، أشبه ما يكون بحكومة فيشي في فرنسا، أو الشريط الحدودي في لبنان. المطلوب رئيس مهمته الأساسية الحفاظ على التنسيق الأمني، والسكوت على جرائم المحتل، ضمن إدارة ذاتية للشؤون المعيشية بحدها الأدنى، مرجعها الحكم العسكري الصهيوني. ويبدو أن هذا هو المآل المحتم لمسيرة "أوسلو"، وسياسة التنسيق الأمني.
في مواجهة ذلك، ينبغي العمل بجد على صياغة نظام سياسي فلسطيني جديد ومقاوم، يقوم على إبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة، وعدم السماح بتصفيتها، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير على برنامج الميثاق الوطني الفلسطيني، وضمن صيغ تمثيلية ديمقراطية، تضمن إعادة وحدة الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع وعرب فلسطين والشتات، متجاوزا كل مرحلة أوسلو وسياساتها. يتبنى هذا البرنامج المقاومة بكل أشكالها المتاحة والممكنة، ويسعى إلى تعبئة طاقات الشعب العربي الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، كما يعمل على استعادة العمق العربي للقضية الفلسطينية، وإعادتها إلى مكانها قضية مركزية للأمة العربية.
ثمة إيجابية يتيمة للمرحلة الجديدة، تتمثل في وضوح ألوانها، وغياب الضباب السياسي الذي كان يخيم فوق أجواء الوطن، ويمنع من الرؤية السليمة، كما يكشف كل المواقف على حقيقتها، فلا يعود هنالك من مجال للاختباء خلف شعارات واهية، أو التمترس خلف أشباه الجمل الثورية، أو تاريخ نضالي لا يعمل بمقتضاه في الحاضر المعاش، إذ ثمة خيار واحد لا ثاني له، أن نكون مع المحتل الصهيوني أو مع فلسطين.
إجراءات عزل ياسر عبدربه عن أمانة سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وتعيين صائب عريقات في هذا الموقع، والحجز على أموال مؤسسة سلام فياض، واستمرار الصراع مع محمد دحلان، فسرها المراقبون بأنها محاولة من الرئيس لترتيب شؤون البيت قبل مغادرته.
غياب الرئيس المفترض، وبغض النظر عن توقيته وظروفه والملابسات التي ستحيط به، يأتي في ظل التغول الصهيوني على ما تبقى من مظاهر سيادية للسلطة الفلسطينية، وغياب آليات واضحة لانتقال السلطة، وصعوبة إجراء انتخابات جديدة في ظل الانقسام وسلطتي الأمر الواقع في شطري الوطن، وتراجع التأثير العربي في الوضع الفلسطيني الذي بات يشهد تدخلا إسرائيليا متزايداً، يكاد يتحكم في كل مفاصل الحياة اليومية.
ثلاثة مواقع يشغلها الرئيس، وهي متداخلة ومتشابكة، فهو رئيس للجنة التفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ورئيس حركة فتح وقائدها العام. وكل من المنظمة والسلطة تآكلت شرعيتهما، واختلّت النظم والقوانين الحاكمة فيهما، في حين تعاني "فتح" من وضع متردٍّ، تزيده سوءاً صراعات السلطة، وغياب الأفق السياسي وسط المجهول الذي ينتظرها في مؤتمرها المقبل.
في اتفاق أوسلو الذي يتحكم بالوضع القانوني للسلطة الفلسطينية هنالك اعترافان: الأول تعترف به منظمة التحرير بإسرائيل. والثاني تعترف به إسرائيل بأن منظمة التحرير هي الجهة التي ستفاوضها عن الفلسطينيين في عملية السلام. أي أن إسرائيل لا تعترف بالحقوق الفلسطينية، وإنما بالجهة التي ستفاوضها على ما تعتبرها أمورا متنازعا عليها، بهدف منح حكم ذاتي محدود للفلسطينيين، وفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، للتوصل إلى اتفاق نهائي، انتهت قبل نحو 20 عاماً، وما زال الاحتلال جاثما فوق الأرض الفلسطينية.
ما يعنينا هنا أن منظمة التحرير، نظرياً، جهة أعلى من السلطة الفلسطينية، وهي المنوط بها عملية المفاوضات والوصول إلى تسوية نهائية. ولذا، كان من المهم أن يكون رأس السلطة هو رأس المنظمة. نظرياً، ينتخب المجلس الوطني الفلسطيني رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأعضاءها، وهو ما تم لدى انتخاب أحمد الشقيري ويحيى حموده وياسر عرفات. وعملياً، يجب ألّا نغفل عن التأثير العربي في اختيار الرئيس في المراحل السابقة، والذي أدت مصر دوراً محوريا فيه. تضاءل هذا التأثير كثيراً الآن، وربما أصبحت المؤثرات الأوروبية والأميركية والإسرائيلية أقوى منه وأبلغ. بل يمكن القول إن منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلت، على الدوام، وطنا معنويا للفلسطينيين أينما كانوا، في الوطن أو الشتات، قد أصابتها عوامل الزمن والتردي، وانهار مشروعها السياسي الأساسي التي عبر عنه الميثاق الوطني الفلسطيني. لذا، نجد على الدوام أن الكل الفلسطيني، ومن دون استثناء، ومن موقع التمسك بمنظمة التحرير وطنا للفلسطينيين، يدعون إلى إعادة (إحيائها)، ولعله أبلغ تعبير عن الحالة التي وصلت إليها، من حيث هو إحياء من موتها السريري، ومعها النظام السياسي الفلسطيني برمته. حسبنا أن المجلس الوطني الفلسطيني، ومنذ أول دورة انعقاد له سنة 1964 عقد 20 دورة في 27 سنة، وهذا دليل على حيوية النظام السياسي آنذاك. أما في ظل "أوسلو"، وعلى مدى ربع قرن، فقد عقد دورة واحدة سنة 1996 في غزة، خصصت لتعديل الميثاق الوطني، وشابتها مثالب كثيرة في تغيير عضوية الأعضاء الذين لم يحضروا احتجاجاً، وتم استبدالهم بغيرهم، وكاتب هذه السطور ممن عايشوا هذا الأمر. كما تم لاحقاً (2009) عقد جلسة طارئة لاستبدال أعضاء اللجنة التنفيذية الذين توفاهم الله. وإذا كانت آخر جلسة للمجلس الوطني قد عقدت قبل كل هذا الزمن، فمن هم أعضاؤه الأحياء اليوم، وكم عددهم، أما اللجنة التنفيذية، فقد مضى لبعض أعضائها في عضويتها أكثر من أربعين عاماً.
تآكل منظمة التحرير على هذه الصورة، وتراجع دورها لحساب السلطة الوطنية، وفشل كل الاقتراحات لإنعاشها، بما فيها الاتفاق على قيادة وطنية موحدة، أو الدعوة إلى عقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني، عبر إعادة تشكيله على أسس أكثر ديمقراطية، تسمح بانتخاب أعضائه، حيثما يمكن ذلك في الوطن والشتات، أصاب ذلك كله أسس النظام السياسي الفلسطيني الراهن بالتصدع، وجعل من الضرورة المبادرة إلى حلول أكثر جذرية، عبر مبادرات شعبية، من أجل أن تبقى منظمة التحرير فعلا ممثلا شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.
تعيين صائب عريقات أمينا لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بدلا عن ياسر عبد ربه، قد يفتح له مجالاً لأن يخلف الرئيس محمود عباس في رئاسته منظمة التحرير، تماما كما خلف عباس، حين كان أمينا للسر، الرئيس ياسر عرفات بعد استشهاده، في رئاسة اللجنة التنفيذية. لكن قد يتم فصل هذا الموقع عن منصب رئيس السلطة الوطنية في المرحلة المقبلة، خصوصا بعد تقليص دور المنظمة في النظام السياسي الفلسطيني، والتطورات التي طرأت على دور السلطة الوطنية في ظل الاحتلال، ما يدخل الحالة الفلسطينية في مرحلة جديدة أشد قتامة، يخشى بها أن يتحول دور المنظمة إلى تبرير لأفعال السلطة، مع التضاؤل التدريجي لفاعليتها، وصولا إلى إنهاء دور ما كان يعرف في التاريخ الفلسطيني باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
انتهت ولاية الرئيس محمود عباس منذ شهر سبتمبر/أيلول 2009، وهذا هو حال المجلس التشريعي الفلسطيني. والسلطة الفلسطينية سلطتان، بعد أن فشلت كل جهود المصالحة، ولا يبدو أن ثمة أفقا جديا أمامها في المدى المنظور. الفراغ الرئاسي في حال رحيل الرئيس عباس يفترض أن يملأه رئيس المجلس التشريعي، المنتهية ولايته أيضا، ثلاثة أشهر، تجري خلالها انتخابات جديدة. لكن، ثمة قرار لافت لمحكمة العدل العليا الفلسطينية، أخيراً، والتي قضت بعدم جواز محاكمة النائب في المجلس التشريعي، محمد دحلان، عن قضايا فساد وجهت له لتمتعه بالحصانة البرلمانية. وإذا كان القرار يخص دحلان، إلا أنه يعني اعتراف المحكمة، ضمناً، باستمرار شرعية المجلس التشريعي ونوابه الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم عن عضويتهم في هذا المجلس المنتهية ولايته. وهذا قد يعطي الحق لرئيس المجلس التشريعي، وهو من حركة حماس، بالمطالبة بموقع الرئاسة. لكن، الموضوع هنا وفي ظل الانقسام يتعدى إطار الجدل القانوني والفقه الدستوري الذي لن يلتفت إليه أحد، في غياب الشرعيات الضرورية، وعلى الأرجح، سيتم اختراع حلول، أبسطها استدعاء المجلس المركزي للقيام باختيار الرئيس الجديد العتيد، باعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة الولاية على السلطة الوطنية، هذا إذا لم يعيّن الرئيس محمود عباس نائباً له قبل رحيله.
رحيل الرئيس عباس يعني أن مرحلة جديدة توشك أن تبدأ، وإن تمت أولى خطواتها قبل سنوات، عندما قضت إسرائيل على ما تبقى من اتفاق أوسلو، في اجتياحها المناطق الفلسطينية، وعندما وضع الجنرال الأميركي دايتون خطة التنسيق الأمني، وأعاد بناء أجهزة الأمن الفلسطينية بما يخدم هذه الخطة. عملياً، لم تعد هنالك مناطق تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وازدادت بشكل كبير هيمنة الأجهزة الأمنية على الحياة العامة، إلى الدرجة التي اعتبر فيها رئيس الحكومة، رامي الحمد الله، أنها ليست من اختصاص حكومته. ولعل من أصدق ما قاله ياسر عبد ربه، في مؤتمره الصحفي، بعد قرار عزله ونعيه اتفاق أوسلو، تأكيده التقاسم الوظيفي بين السلطة الوطنية والإدارة الإسرائيلية.
الاحتلال الذي فكك أوسلو ورفض عملية السلام، على الرغم من كل التنازلات التي قدمت له، وشيّد جدار الضم والفصل العنصري، والتهم الأرض الفلسطينية واستباحها، وأنشأ المستوطنات التي تتضاعف أعدادها كل سنة، يسعى إلى مرحلة جديدة، يعمل فيها على تفريغ الفصائل الفلسطينية من إرثها النضالي، وإلهائها بالصراعات الداخلية والجهوية، كما يهدف إلى إنهاء ما تبقى من مظاهر للسلطة الفلسطينية تدريجياً، وجعلها منظومة إدارة ذاتية، تتقاسم الوظائف مع الحاكم العسكري الصهيوني، وتتحمل عنه جزءا من أعباء الاحتلال، وتسهر على أمنه وأمن مستوطنيه، وتسمح له بالسيطرة على البلاد والعباد، والتحكم بكل الموارد والمرافق والمفاصل، وتفصل الأرض المحتلة عن الشتات، وأهل فلسطين المحتلة عن أقرانهم في أنحاء المعمورة، وصياغة واقع فلسطيني جديد معزول عن تاريخه ونضاله.
في ظل هذا السياق، لن تعود مرحلة مثل مرحلة الرئيس محمود عباس، على الرغم من كل التنازلات التي قدمها، مقبولة من المحتل. ثمة انحدارإلى هاوية أخرى، نمط جديد تجري صياغته، أشبه ما يكون بحكومة فيشي في فرنسا، أو الشريط الحدودي في لبنان. المطلوب رئيس مهمته الأساسية الحفاظ على التنسيق الأمني، والسكوت على جرائم المحتل، ضمن إدارة ذاتية للشؤون المعيشية بحدها الأدنى، مرجعها الحكم العسكري الصهيوني. ويبدو أن هذا هو المآل المحتم لمسيرة "أوسلو"، وسياسة التنسيق الأمني.
في مواجهة ذلك، ينبغي العمل بجد على صياغة نظام سياسي فلسطيني جديد ومقاوم، يقوم على إبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة، وعدم السماح بتصفيتها، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير على برنامج الميثاق الوطني الفلسطيني، وضمن صيغ تمثيلية ديمقراطية، تضمن إعادة وحدة الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع وعرب فلسطين والشتات، متجاوزا كل مرحلة أوسلو وسياساتها. يتبنى هذا البرنامج المقاومة بكل أشكالها المتاحة والممكنة، ويسعى إلى تعبئة طاقات الشعب العربي الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، كما يعمل على استعادة العمق العربي للقضية الفلسطينية، وإعادتها إلى مكانها قضية مركزية للأمة العربية.
ثمة إيجابية يتيمة للمرحلة الجديدة، تتمثل في وضوح ألوانها، وغياب الضباب السياسي الذي كان يخيم فوق أجواء الوطن، ويمنع من الرؤية السليمة، كما يكشف كل المواقف على حقيقتها، فلا يعود هنالك من مجال للاختباء خلف شعارات واهية، أو التمترس خلف أشباه الجمل الثورية، أو تاريخ نضالي لا يعمل بمقتضاه في الحاضر المعاش، إذ ثمة خيار واحد لا ثاني له، أن نكون مع المحتل الصهيوني أو مع فلسطين.